مجلة الدوحة بين رجاءات القراء العرب وتحديات العولمة



مجلّة الدّوحة


(عودة بين رجاءات القراء العرب وتحديّات العولمة)


الدّكتور: أحمد صافي الّدين*


ahmedsafidin@yahoo.com


"يقال عن المجلة أنها هي بستان العالم، وأستاذ المريد، والموعد الذي يلتقي فيه المفيد والمستفيد، وهي خطب العالم إلى كل ندوة، وبريده إلى كلّ جلوة". فأنعم بها من وسيلة اتصال تستجيب إلى النّداءات والنّفرات في عالم يعاني من الفقر الثّقافيّ والجوع الفكريّ، والأنيميا المعرفيّة.


إنّه لمن دواعي السّرور ان تطلّ علينا مجلّة الدّوحة القطريّة الأثيرة لدى قراءها الكثر، بعد غياب كنّا نظن ان لا عودة لها بعده إلى الصّدور. والحق الذي يقال هو أنّ لمجلّة الدّوحة مكانة في أنفس كثير من القرّاء ممن عاصروها أو عاصروا بعض أعدادها ، وشغف أيّما شغف،وذلك منذ صدورها في السبعينات من القرن الماضي.


إنّ مجلّة الدّوحة هي معلم ثقافي لا تخطئه عين القارئ العربي الحصيف، غير أن الأجيال خلال العقدين الماضيّين لم يدركوا من تجربتها شيء، اللهم إلا ما اتيح لهم من أرشيف في الدّوريات من أعداد قديمة..


ومن دواعي الغبطة ان من يدرك مشكلات صناعة المجلّات في العالم العربيّ لتنتابه الهواجس تجاه الواقع الثّقافيّ في العالم العربيّ، لاسيما عند المقارنة مع الدول الأوربية أو غيرها في ميدان المطبوعات.


إنّ الذين يدرِّسون مقررات صحافة المجلة ضمن مطلوبات أقسام الصّحافة بكلّيّات وأقسام الاتّصال، يدركون جيداً تشخيص مشكلات وأسباب إصدار المجلّات ، وأسرار غيابها عن السّاحة الثّقافيّة وتوقفها واحتجابها عن الصّدور لدواع متعدّدة قد تكون سياسيّة تتصل بالرّقابة وآلياتها، أو إداريّة ترتبط بترتيبات العمل الرّوتينيّ الإداريّ، أو اقتصاديّة تتصل بالتّكلفة والموازنة بين مصروفات العمل والعائد من ذلك.


وربما قد يكون الأمر له ارتباط بجوانب تحريرية لها أثارها على توزيع المجلّة وقبولها ومصداقيتها وسط القرّاء، وكوسيلة تجد المنافسة من مجلّات أخريات.


وفوق هذا وذاك فان دراسة الجدوى لصدور مجلة ما، أمر ذو أهمية بالغة في ضمان استمرارها وتحقيق أهدافها، وهو أمر تقوم به على وجهه الصحيح بعض الجهات دون غيرها في عالمنا العربي، فيأتي الفشل من هذا الباب ولهذا ظل واقع صناعة المجلة يتأرجح دون ان يستقر على وتيرة تخدم الأهداف الاتصالية من إصدار هذه الوسيلة لتغطي فجوة معرفية في بيئة هي اشد الحاجة إليها.


إنّ تاريخ مجلّة الدّوحة يشير إلى أنّ رئاسة تحريرها في عهدها الأوّل كان من نصيب النّاقد المصري رجاء النّقاش، ومن بعده الأديب السودانيّ الدّكتور محمّد إبراهيم الشُوش، وهو عميد سابق لكلّيّة الآداب بجامعة الخرطوم بالسّودان. من حسن المصادفة انه قد وافق عودة صدور المجلّة في عهدها الثّاني عودة الدّكتور الشّوش إلى ذات الدّوحة كملحق إعلاميّ وثقافيّ بالسفارة السّودانيّة هنالك ليشهد ميلاد الدّوحة في عهدها الثّاني الذي نأمل ان يحقق الاستدامة في الصّدور.


إنّ إعلان الشّيخ مبارك بن ناصر آل ثاني، الأمين العام للمجلس الوطنيّ للثّقافة والتّراث في مؤتمره الصّحفيّ صباح الأربعاء 31/10/2007م بصدور العدد الأوّل من المجلّة في اليوم التّالي للمؤتمر لأمر يدخل الشرور في أنفس أهل الصّحافة العربيّة عموماً وأهل صحافة المجلّة على وجه الخصوص، ويسعد القرّاء . فعند النّظر إلى ان المجلّة كوسيلة اتصال تستهدف ردم فجوة معرفيّة بين الصّحيفة والكتاب، هنالك العديد من المسوغات التي تحدونا على المضي قدماً في صناعة المجلّة للمساهمة في نشر المعرفة، في عالم تتجدد فيه المعارف والمعلومات وتحتاج إلى المتابعة اليومية والمستمرة كلّ في ميدان اختصاصه.


ولعلّ من أهداف صدور المجلات كوسائط اتصاليّة -عند أهل الاختصاص- هو الدّعوة إلى الإصلاح بمعناه الشّامل، والمجلّة كوسيلة تجمع بين شمولية التّغطية وعمق التناول للقضايا والموضوعات، وهي مطالبة بأن تقوم بدور إصلاحيّ وحيويّ في مجتمعها، وبذلك يؤمل أن تكون منبراً لشحذ الهمم والعزائم، لا ان تكون وسيلة للتخدير مثلما تفعل كثير من الوسائط الإعلاميّة في عالم العربي.


إنّ دولة قطر التي قدّمت للعالم العربيّ وللعالم أجمع قناة الجزيرة على الرّغم من تباين وجهات النّظر حولها ما بين مؤيد ومعارض ومتحفظ، تقدم اليوم من جديد أملاً في صدور الدّوحة في عهدها الثاني، وفي ذلك مواصلة للنجاحات الإعلاميّة التي تميزت بها الدّولة بين رصيفاتها.


فتجربة قطر فيها من مبشرات النّجاح، ومن المؤكد أن التمويل لن يكون احد تحديّات المجلّة في هذه المرحلة، لكن اليقين يفيد ان التحدي الأكبر الذي يمكن ان تواجهه المجلّة، سيتصل أيّما اتصال بالرّسالة أو بالمضمون الذي تحتويه صفحات المجلة حتى يتفاعل معها جمهرة القراء فقد شهدت البلاد العربيّة كغيرها تغييرات كبيرة، لا سيما مع بزوغ فجر العولمة الإعلاميّة في إطار التّطور التّقنيّ الذي فرض نفسه، فأحدث تغييرات سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة ...الخ .


فيما يبدو لي ثمّة تساؤلات عدّة لا بد من التعرض لها في إطار تقويم، لعل القارئ يجد إجابات شافية تجاهها،منها: كم من الفوائد جنى القطريّون والعرب من مجلّتهم في عهدها الأوّل وكم من الخسائر التي نجمت عن توقفها؟ وماذا يرتجي منها في تجربتها الجديدة؟ و لماذا توقفت مجلّة الدّوحة عن الصّدور؟ و لماذا اختار القائمون على أمر المجلّة البدء بترقيم أعداد المجلة ترقيما يبدأ من جديد بالرقم واحد ؟ وهل يعد انخفاض سقف الحريّة والرقابة احد دواعي التوقف سابقاً ؟ وأين مجلّة الدّوحة في عهدها الجديد من التّطورات الايجابيّة والسّلبيّة التي شهدتها الأمّة العربيّة ؟ وهل من المأمول أن ترتقي المجلّة إلى مستوى طموح الشّعوب العربيّة، وهموم أولى العزم من العرب من أصحاب القضيّة، أم تساير واقع الأنظمة العربيّة التي تجري وراء أمريكا وبني صهيون؟


تشير المعلومات حول العدد الأوّل الذي نترقبه ونتلهف لرؤيته إلى ان موضوع الغلاف قد كان من نصيب الرّوائي "باولو كويللو" البرازيليّ الذي توزع بعض رواياته (30) مليون نسخة. فالانفتاح على الثقافات الأخرى وان كان مطلوباً فان معرفة التراث والموازنة بينه وبين غيره في الطّرح أمر هو الآخر مطلوب ومرغوب.


فالمعلومات التي نشرت في موقع مفكرة الإسلام على شبكة الانترنت سواء كانت حول الإعلان عنها أو صدرت كرجع صدى لصدور المجلّة تشير إلى ان الهدف من الدّوحة في عهدها الجديد التعريف بالحركة الثقافية والفكرية والحضاريّة للعالم العربيّ، وأن تكون المجلة جسراً للتواصل الثّقافيّ الفكريّ بين المثقفين والقراء وبين الثّقافة العربية والثقافات الأخرى.


ففي كلمة ترحيب باحتفال بهيج بقطر وصف رئيس رابطة الإعلاميّين السّودانيّين صديق محيسي المجلّة بأنها كانت ذات أثر من الماء إلى الماء، وفي ذلك إشارة إلى كل من المحيط الأطلسي والخليج العربيّ، وأن الدّوحة كانت الأولى تليها مجلّة العربيّ الكويتيّة التي ما تزال تواصل صدورها بفضل الله وعونه.


آمل ان تكون الدّوحة كنزاً وزاداً معرفياً لجمهرة القرّاء العرب في زمن يشهد فيه الناس اضمحلال المعرفة والفقر الثقافي والانصراف نحو القضايا الانصرافيّة، كما يشهد الواقع عزوفاً واضحاً عن القراءة. وتعد المجلّة في ظل واقع كهذا ترف أيّما ترف في وقت تستحوذ فيه الفضائيّات بقضِّها وقضيضها على وقت الإنسان، وهي لا تقدّم له الزّاد المطلوب.


والدّوحة تعاود الصدور في هذه المرحلة، والمعرفة قد أصبحت لها اقتصاديّاتها وأهميتها في عصر العولمة. كما أن التّنمية البشريّة التي تستهدف إنتاج العقول المبتكرة والمبدعة تجد الاهتمام من كافة الدّول. فالمجلة مطالبة في مرحلتها الرّاهنة بمواكبة المستجدات والاستجابة للتّحديّات، ومجاراة المتغيّرات في عالم هو الآخر متغير باستمرار، دون ان تفقد هويّتها، ودون ان تتجمد أو تتحجر، لتسهم في صناعة الإنسان العربي صاحب الرسالة والحضارة ليستعيد أمجاد ماضيه، ولتنتفع البشرية بما حبا الله به أمّة الإسلام من قيم ومثل عليا، في عالم دأبه الصراع بين القوى، وتتناوش الذئاب وتفترس كل ضعيف أو مستضعف، والأمر يحتاج إلى قيم ومثل عليا، لا تستلهم فلسفاتها من الفكر البشريّ القاصر، وإنما من العطاء الإلهي الذاخر.


وإن كانت ثمة توصية تجاه المجلّة، فاخص بها هيئة تحريرها، وأشير إلى أنّهم في ضرورة ماسة إلى همة ترفعهم وترقيهم، للخروج من واقع يفرح العدو ولا يسر الصديق، وعلم يبصرهم ويهديهم نحو تحقيق الأهداف السامية.


وفي يقيني انه من غير توفر هذين الرّكنين، سيكون مصير الدّوحة مصير آلاف المجلات العربيّة، سواء تلك التي كتب لها الاستمرار، أو التي توقفت عن الصدّور. ونربأ بدوحة العرب ان تكون كسائر المجلات التي تسير وراء الركاب ، ونريد لها ان تكون في موقع القيادة والريادة لتحقق فاعليتها وتؤدي رسالتها تجاه مجتمعها على هدى وبصيرة.