الجمعة، 1 يونيو 2012

نحن ضد الاعوجاج-



تستهدف هذه المقالة الكشف عن خطأ مرده خلل في التفكير ومنهجه. فثمة خلط شنيع بين الولاية العامة وإدارة الأعمال الخاصة في الواقع. وربما تكون المذهبية، أو الثقة في زيد أو عمرو هي الدافع إلى السكوت عن ممارسات تلك الخطايا. ويصبح السكوت وعدم الحزم دافعاً لآخرين لارتكاب ذات الأخطاء.
(1)هذا لكم وهذا أهدي إلى:
في عهد الملك فيصل  (رحمه اللّـه) تقدم أمير الخبر ، عبد العزيز آل سعود بطلب  وكالة سيارات. فكتب الملك فيصل على المعاملة  يخيّر بين التجارة والإمارة ولا يحق له الجمع بين الاثنين .
وتقف السيرة العمرية شاهدة على مواقفه البطولية ضد كل من تسول له نفسه آكل أموال الرعية، أو الخلط بين المال العام والخاص. ومثلما يحرم القرآن الجمع بين الأختين، فان الجمع بين الوظيفة العامة والأعمال الخاصة ينبغي أن تحرمه القوانين، فهو ضرب من ضروب الفساد لا يفضي إلى نتيجة  ايجابية. فمن أراد أن يتجر، فهو حر في احتراف ما يشاء له من مهن، لا يضره ولا يمنعه من ذلك شيء. ومن أراد أن يجمع بين التجارة والإمارة، فذاك أمر يفضي إلى فساد الراعي ويفسد الرعية.
إن من رام منافسة التجار من السياسيين، نافسه التجار في إمارته كائناً من كان. تلك حدود برهانها بين، ودلائلها واضحة المعالم، لا ينكرها إلا من عميت بصيرته. وكم سمعنا ممن يأنفون عن التخلي عن تجارتهم وهم يتبوءون وظائف عامة. وعلى الأرجح فان الخلل في منهج التفكير هو الذي يفضي إلى فوضي نتائجها  وعاقبة أمرها خسراً.
الولاية على العمل العام، لها محاذيرها، ولكن اليوم اختلطت الأمور لدى عامة الناس وخاصتهم. فالمهندس في مكتبه، والطبيب في مشفاه، والموظف العام في دوامه، والمعلم في مدرسته، والعامل في محل عمله، كل يخلط بين واجبه في العمل العام، وما يخصه كفرد من أفراد المجتمع.
وعليه، ينبغي أن لا يحدث الخلط الشنيع بين الخاص والعام. فالولاية العامة لها حرمتها ومحاذيرها، وحقوق الرعية لا ينبغي أن تترك سدى، بل على الوالي أن يصونها، ويحمي من يصونها، وإلا فان الفساد الذي هو ضد الإعمار لا بد كائن.
إن التكسب من الوظيفة العامة هي جريمة مكتملة الأركان، ولكن! لا تعجبون من أمراء هم تجار ورجال أعمال، لا يعنيهم من الشأن العام شيء إلا بمقدار تحقيقه لكل أو بعض مصالحهم.
لست بحاجة إلى ذكر أسماء، فالكل يعلم من يجمعون بين الشأن العام والعمل الخاص، فكثيرون لا يلوون على شيء. يلومهم من يلوهم ويحذرهم من يحذرهم دون جدوى. إن الواجب يقتضي أن يخير من يجمعون بين الأختين ، ومن يقولون هذا أهدي إلى، وليس لكم عندي شيء، بالتمسك  بواحدة حتى يتحقق العدل  بين الرعية، وأن لا يعم الفساد في الأرض.
(2)حكم الأثرياء:
في النصف الثاني من ثمانينات القرن الماضي ما يزال عقلي يذكر كتاب البروفيسور محمد هاشم عوض عن حكم البلوتوقراطي. أي طبقة التجار ورجال الأعمال. وبطبيعة الحال يرعي هؤلاء مصالحهم الخاصة، وليمت غيرهم من الجوع. فقد عرف عن البرلمانات السودانية أنها تسيطر عليها بيوت محددة منذ أول انتخابات. وفي ذلك استمرار لسيطرة الأثرياء.
تجربة البروفيسور البنغالي محمد يونس مع فقراء بلاده حري بنا الأخذ بها، فالفكرة قد أفضت إلى إنشاء بنك القرية، ونال بموجب هذه المبادرة جائزة نوبل للسلام. وذاك هو الاقتصاد الإسلامي الحقيقي دون شعارات براقة وأسماء في غير موضعها.
لقد كانت من كبريات جرائم نظام مبارك تسليمه البلد لرجال الأعمال، فعاثوا في الأرض الفساد. لقد كان هؤلاء خير عون للصهيونية يصدرون إليها النفط والغاز وغير ذلك، لأن المصالح لا تعرف العدو من الصديق.
ومما يحير في السودان ارتفاع الأراضي رغم المساحات في ظل خسارة الزّراع والصنّاع! أيمكن أن يكون الفساد في الأرض بإجبار المزارعين وأصحاب الصنائع على ترك أنشطتهم والجلوس مثل غيرهم ممن يؤدون أعمالاً غير منتجة وهامشية لا تسهم إلا في رفع تكلفة الإنتاج وغلاء الأسعار.
هل يستعبدوننا تحت بمسميات جديدة، وهل الوظيفة رق القرن العشرين كما يقول العقاد، ومن باب أولى رق الألفية الثالثة. ما السبيل إلى تقديم هموم الجماهير على الامتيازات لدى الممسكين بالشأن العام؟
فالبلوتوقراطية أو حكم الأثرياء هي أحد أشكال الحكم تكون فيها الطبقة الحاكمة مميزة بالثراء. ففي البلوتوقراطية، درجة التفاوت الاقتصادي تكون عالية بينما مستوى الحراك الاجتماعي يكون منخفض. والمصطلح يُستخدم لوصف مفهومين اثنين: فالمفهوم الأول يشير إلى الدول التي كانت خاضعة للسيطرة السياسية من قبل أطبقة ثرية. أما الاستخدام الثاني للمصطلح ، ذو الدلالة السياسية المعاصرة، فهو استخدام يحمل معنى ازدرائي وانتقاصي، ويُطلق على المجتمعات المعاصرة التي تكون فيها العملية السياسية خاضعة لتأثير المال بشكل كبير وغير متكافئ.
من يروم الحكم يلزمه التعري عن الفضائل متى ما لزم الأمر. وقد تقتضي المنافسة والصراعات إعادة هيكلة المجتمع والانتماءات فيه. فهيكلة الأحزاب من خلال التوالي السياسي وتفتيت الأحزاب. وهيكلة الاقتصاد من خلال الخصخصة والتصفية وظهور الشركات الرمادية وغيرها. وهيكلة الزارعة من خلال دخول البنوك بغرض التمويل فخرج الزراع عن مهنة الزراعة ودخلها التجار. وإعادة هيكلة المجتمع عبر وزارة التخطيط الاجتماعي. كلها أصابت الاقتصاد في مقتل وضاعت بموجبها حقوق العباد بسبب غياب المعايير العادلة.
(3)الارتزاق من السياسة:
لقد كتب شريعتي من قبل يقول:" لقد ذهبت أنت يا أخي ضحية بناء قبور الفراعنة، بينما جعلت أنا فداء لقصور الحكام وقلاعهم الشاهقة. ووجدت نفسي مكبلا بقيود خلفاء فرعون وقارون الذين استرقونا وسخرونا لخدمتهم. لقد شكل هؤلاء الخلفاء طبقة رجال الدين الرسميين (الكهنة)، التي أصبحت طبقة فوقية متنفذة ومستكبرة، وقد كتب علي أن اخدم هؤلاء وابني لهم القصور والمعابد الفخمة، في إيران وفلسطين ومصر والصين، وفي كل مكان يوجد فيه محروم مغلوب على أمره ومستعبد. إن هؤلاء القيمين الرسميين على الدين الذين ادعوا تمثيل الله وخلافة أنبيائه نهبونا الزكاة وساقونا للقتال باسم الجهاد، بل أنهم أجبرونا على تقديم فلذات أكبادنا على مذبح الأصنام قربانا للآلهة، حتى أصبحت المعابد تسقى باستمرار من دماء أبنائنا وبناتنا الأبرياء.

فهنالك من يرتزق من السياسة ويبحث عن الثراء. لقد كان اتجاه كل من يهدف إلى تحقيق الثراء السريع أن يعمل في السياسة. ويذكرني هذا بتعليق كاركتيري تناول قضية تخفيض استحقاقات الدستوريين بنسبة 25%، فعلق قائلاً:" لسع باقي لينا عندهم 75%". فمرتزقة السياسة لا سبيل إلى التخلص منهم سوى أن تكون هذه الوظيفة لمن يحتسب الأجر عند الله، ويعطي مقابل عمله ما يقيم الأود. أما والحال ما ذكر ، ففي تقديري أن الأمر لا يمكن أن يستقيم.

إن تحفيز التجار وطبقة السماسرة والطفيليين على حساب المنتجين الصغار تعد جريمة في حق البلاد والعباد. لسان حال المزارعين يقول: نحن نزرع ويحصد غيرنا، هكذا يقول الزراع. في حالة غزارة الإنتاج يضيع المزارع بسبب تدني الأسعار، وفي ظل تدني الإنتاج يرتفع السعر فيضيع المنتج. أضاعوني ليوم كريهة وسداد ثغر.
(4) تقويم الاعوجاج:
فوفق ما يقوله على شريعتي: ولازلنا يا أخي نعيش زمنا هو في أمس الحاجة إلى رجل مثله (يقصد شخصية فريدون النبيلة) فهو ليس كالحكماء والعلماء الذين كانوا رجال علم لا عمل، أو كانوا رجال عمل من دون علم، وكان من القادة من هو رجل علم وعمل، إلا انه لم يكن قائد الجهاد وميادين الحروب، ومنهم من اجتمعت فيهم الصفات الثلاثة - العلم والعمل وقيادة الحروب - لكنهم لم يكونوا ثقاة وعادلين، وحتى لو توفرت الخصال الأربع في بعضهم فلم يكونوا كالعاشقين في لطفهم ورقة أحاسيسهم وخلوص حبهم لله وللناس.إن ما يعانيه الشعب السوداني من ضيق في العيش مرده إلى السياسات تجاه المنتجين. فمن الجرائم التي لا يعاقب عليها القانون اليوم الفساد في الأرض، والعمل ضد منهج الإسلام في الإعمار والبناء، ومخالفة السنن الكونية.
لعل نظرة والدي شبه الأمي، هي نظرة إسلامية واقتصادية لا تتوفر لدى كثير من صانعي القرار، ولا متخذيه، حيث كان وما يزال يعتقد جازماً أن الإنتاج الزراعي لا مفر منه، ولا بديل، و لا محيد، سواء كانت ثمرة العمل الربح أو الخسران. والأمم الكافرة التي لا تعرف المشروع الحضاري تحفز المنتج، وتمد يد العون، وهو سلوك عكس ما يمارس هنا.
أعيدوا للمنتج حقه، وشجعوه على أن يبقي في قريته ومزرعته، ليعتمد على نفسه أولاً ويعطي ما فاض من إنتاجه لغيره ، سداً لحاجة الاستهلاك المحلي ثم دعما للصادر. أن المعادلة لا تصح عندي إلا بدخول الأثرياء لخدمة الشأن العام للخروج فقراء بيض الأيادي طاهرين ومطهرين. أما والحال ما ذكر، فان في التجربة الراهنة ما يعين على المزيد من الاعوجاج.
الاستغلال هو الاستغلال، والاستعباد هو الاستعباد، والرق هو الرق، والظلم هو الظلم، والاعوجاج هو الاعوجاج، والفساد هو الفساد، والطغيان هو الطغيان، في كل زمان وكل مكان، تتغير المسميات وتبقي الحقيقة لا مراء ولا جدال. من سن من ذلك شيء، له وزره ووزر من عمل به.
وفي الختام إني لآمل أن تكون هذه المقالة تذكره وتبصرة لكل من كان له قلب أو القي السمع وهو شهيد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق