الجمعة، 1 يونيو 2012

الفِّكر الاتصاليّ لدى علماء التّراث العربيّ والإسلاميّ

الفِّكر الاتصاليّ لدى علماء التّراث العربيّ والإسلاميّ
الإمام ابن قيم الجوزية أنموذجاً(2)
جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلاميةتناول المقال السابق، الفكر الاتصالي لدى الجّاحظ باعتباره يمثل مدرسة الأدب، وهذه المقالة تتناول ابن تيمية وابن القيم باعتبارهما يمثلان مدرسة الفقهاء. وتستهدف هذه المقالة وما سيلحق بها -أن شاء الله- التدليل على ثراء التراث العربي والإسلاميّ في كل حقل من حقول المعرفة، دون استثناء لعلوم الاتصال. كما تستهدف لفت أنظار طلاب المعرفة المختصين وغيرهم إلى الاستفادة من كتب التراث والتخلي عن القطيعة مع هذه الكتب، لتحقيق نهضة فكرية مبنية على التأصيل المعرفي النابع من قيم وعقيدة الأمة وتراثها. وفيما يلي نعرض لفكر كل من ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
أولاً-الفّكر الاتصالي لدى الإمام ابن تيمية: تناثر رؤى الفقيه ابن تيمية في مختلف جهوده العلميّة الكثيرة، وهي تأتي في اطر كلية من غير تفصيل. فقد أورد الدّكتور ساداتي الشنقيطي، في معرض رد له على سؤال عما في فكر ابن تيمية حول وظائف الإعلام بعض المقتطفات حول الموضوع. وقد ذكر أن المتعمق في فكر ابن تيمية يجد مادة خصبة في محوري وظائف الإعلام: محور الهدم ومحور البناء. ولما كان فكر ابن تيمية يتسم بالشمول والتكامل المعرفيّ، فقد كان للإعلام نصيب في فكره. فهنالك تطابق بين ما ورد في فكر ابن تيمية وما توصلت إليه نتائج الدراسات الإعلامية الإسلامية الحديثة. يقول الشنقيطي: ولما كان هدف الإعلام في الإسلام معني بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وهو عين أهداف الشريعة الإسلامية لتحقيق أعظم المصلحتين وفوات أدناهما، ودفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما، جاء فكر ابن تيمية مطابق لذلك. يقول الشنقيطي : إنَّ ابن تيمية قد سبق غيره في الحكم بان هنالك إعلاماً بالفعل، وانه أقوى من الإعلام بالقول من وجه، واضعف منه من أوجه أخرى. ومثل لذلك بالمعجزات التي كانت للرسل كأفعال خارقة للعادة فهي مثل القول تجري مجرى إعلامهم وإخبارهم. وقد لخص نقائص الإعلام في ثلاث نقاط هي: الكذب،  وتزوير الحقائق وتمويهها، وزخرفة القول غروراً،  ولعل هذه الإشارات وان جاءت مجملة لظروفها التاريخية وسياقاتها، فإنها تشكل لبنات طيبات لإعلام مبني على قيم المجتمع الإسلامي وتراثه.
ثانياً- الفكر الاتصالي لدى ابن قيم الجوزية: يعد الإمام ابن القيم من أعلام الفقه الإسلاميّ، وقد تحدث في كتابه "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين" عن الاتصال الرّوحيّ، وهو ضرب من ضروب الاتصال التي لم تجد العناية بل أغفلتها الدراسات الاتصالية في المجتمع الغربي. فقد أفاض ابن القيم في حديثه عن الجوانب الرّوحيّة وافرد باباً سماه الاتصال. وقد قسم (الاتصال) إلى ثلاث درجات هي: اتصال الاعتصام، واتصال الشهود واتصال الوجود. كما فصل الحديث عن الانفصال الذي هو عكس الاتصال فقال: ليس في المقامات شيء فيه من التفاوت ما في الانفصال، وله ثلاث وجوه: احدهما هو انفصال هو شرط الاتصال، والثاني انفصال عن رؤية الانفصال، والثّالث هو انفصال عن الاتصال. يقول ابن القيم في حديثه عن الرّسالة القرآنيّة: إنَّ القرآن قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فانه هو الحجة والدعوة، وهو الدّليل والمدلول عليه، وهو الشاهد والمشهود له، وهو الحكم والدليل، وهو الدعوى والبينة. كما أن القرآن أشار إلى نوعين من الآيات هما الآيات المتلوة (القرآن الكريم)، والآيات المجلوة(كتاب الكون). ولم يغفل الإمام الحديث عن التفكر الذي هو دعوة قرآنيّة راسخة القدم، فيشير إلى أن الفكرة أعلاها وأجلها مّا كان لله والدّار الآخرة، وأمّا أنواعها فهي: الفّكرة في الآيات المنزلة وفهم المراد منها. والفكرة في آياته المشهودة والاعتبار بها. والفكرة في آلائه ونعمه وإحسانه على خلقه. والفكرة في عيوب النفس والعمل وآفاتهما. والفكرة في واجب الوقت ووظيفته. فوسطية الفكر التي تعصمه من الزلل -كما يرى ابن القيم- لخّصها في رؤيته الجامعة في أنّ المحلّ لا يقبل الضّدّين. يقول ابن القيّم : "قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضدّه". وتفسير الأمر هو أن الإناء إذا امتلأ بشيء فلا مجال فيه لقبول غيره، لا سيما أن كان الشّيء الآخر على نقيض من الأوّل. فالحقّ والباطل لا يجتمعان، والخير والشرّ بين طرفي نقيض، والكفر والإيمان كذلك، والصّدق  والكذب لا يلتقيان. وتبقى قضيّة كلِّ متمذهب تنحصر في رؤية غيره على انه نقيضه وضده، أو على غير هواه. والأمر قد يكون خلاف ذلك، ولكنّها آفات المذهبيّة عند غلوها في كلّ زمان. وبناء على هذا المنطق، فان التّشيع لرأي أو نِحلة، أو مذهب يجعل من قبول ما هو ضده، أمراً ربّما يكون من عداد المستحيلات. والأمر يرجع في المقام الأوّل إلى ما عليه النّفس من جبلة. فالخبر الذي يخرج من شيعة الرجل يجد حظه من القبول لأوّل وهلة ، دون أن يخضع للتّمحيص، وعلى النّقيض من ذلك فان الخبر الذي يكون مصدره شيعة أو نحلة مخالفة أو منافسة، يجد الرّفض لأول وهلة كذلك دون النّظر إلى إمكانية أن يكون أهل للقبول لصدقه. فعلى الرغم من التوجيه القرآنيّ بالتّثبت في التعامل مع الأخبار، فالأمر لا مجال فيه بسبب تلك الآفات التي تعمي البصيرة. فمسائل الرّأي، والقبول والرّفض، والبغض والحبِّ، لا يمكن أن يكون الإنسان فيها محلاً للضّدّين؛ إذا لا بدّ من تبني الرّأي والوقوف ضدّ الرّأي الآخر، أو احترامه والتّعامل معه بالقبول. ويفصل ابن القيم بقوله: فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع، كما أنّ اللّسان إذا اشتغل بالتّكلم بما لا ينفع لم يتمكن صاحبه من النّطق بما ينفعه إلا إذا فرغ لسانه من النّطق بالباطل. والقلب مثله مثل الإناء الفارغ، فإذا امتلأ، لا يمكن شغله بمادة أخرى غير التي هي فيه، إلا بعد  أن يفرغ من تلك المادّة الأولى. ومصداق ذلك ما يا يقال عن أن كل إناء بما فيه ينضح. وكذلك الجوارح إذا اشتغلت بغير الطّاعة لم يكن شغلها بالطّاعة إلا إذا فرغها صاحبها من ضدّها. فجوارح الإنسان التي يسخرها صاحبها في أمر ما لا يتيسر له تسخيرها فيما هو ضدّه إلا بالتّخلي عن ما سُخِّرت له في المرّة الأولى، كشرط لقبول التّسخير في الأمر الثّاني. ويمضي ابن القيم فيقول:" فكذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشّوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله، بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلي لقائه إلا بتفريغه من متعلّقه بغيره. فتعلق المرء بكثير من الأشياء يجعله أسير تلك المتعلقات، لا يستطيع الفكاك منها بسبب العلاقة الناشئة بينه وبينها. كما يشير بقوله " ولا حركة اللّسان بذكر الجوارح بخدمته إلا إذا فرغها من غيره وخدمته". فإذا امتلأ القلب بالشّغل بالمخلوق، وبالعلوم التي لا تنفع لم يبق فيها موضع للشّغل بالله ومعرفته وأسمائه وصفاته وأحكامه، والنّاظر إلى واقع النّاس اليوم يدرك صحّة ما قرره ابن القيّم من حقائق ذات صلة كبرى بالجانب العقليّ. ويوضح ابن القيم فيقول:" وشر ذلك إصغاء القلب كإصغاء الأذان،  فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا جبل إلى غير محبّة الله لم يبق فيه ميل إلى محبّته، فإذا نطق القلب بغير ذكره، لم يبق فيه محلّ للنّطق بذكره كاللّسان. وعليه فان تقويم وسائل الاتصال والإعلام يتطلب توفير البديل ومن ثمّ إفراغ الوسائل من محتواها لتتاح الفرصة لتلك الأفكار التي تخدم قضايا المجتمع.
المصادر والمراجع:
1-الفكر الإعلامي لدى ابن تيمية، الدكتور سيد ساداتي الشنقيطي.
2-ابن قيم الجوزية، كتاب الدواء.
3-ابن قيم الجوزية، مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.4-مجموعة فتاوى ابن تيمية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق